لم تعد ألعاب الأطفال الرقمية ترفا يملكه الأغنياء، ولا مجرد متعة يحصل عليها الأطفال في أوقات فراغهم، بل صارت واقعا يوميا، يشكل خبزا لا يمكن الاستغناء عنه عند غالبية الأطفال، ومن يقف في وجه مثل هذه الألعاب، يغامر بجعل أطفاله يعيشون خارج التاريخ، وقد لا يحصل من وراء ذلك إلا العُقد النفسية، والشعور بالدونية من قبل أطفاله، ولا ينجو من هذا الوباء المؤذي إلا قلة قليلة.
لن نظلم الألعاب الرقمية ونقول إن تأثيراتها سلبية بحتة، فلا يمكن لعاقل أن يدعي ذلك، وفي هذا السياق يشير موقع (Healthygamer) إلى تأثيرات ألعاب الفيديو على دماغ الطفل وسلوكه، ويبدأ بالجوانب الإيجابية، مثل: تحسين الوظيفة الإدراكية لدى الطفل، بما في ذلك الذاكرة والانتباه ومهارات اتخاذ القرار، تعزيز القدرة على حل المشكلات وتشجيع الإبداع، وتعليم مهارات حياتية قيمة، مثل العمل الجماعي والتواصل (في أنواع معينة من الألعاب).
ثم يتطرق إلى الجوانب السلبية مثل: إدمان الألعاب والعزلة الاجتماعية وانخفاض الأداء الأكاديمي، قضاء وقت طويل في اللعب يؤثر على الواجبات المدرسية والدراسة، احتمالية الاستخدام المفرط والإدمان، وفوق ذلك التأثيرات السلبية على الصحة البدنية، وزيادة خطر الإصابة بالسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية.
وقد قمت بمسح عدد من الدراسات العربية والأجنبية حول هذا الـموضوع، فوجدت فجوة كبيرة فيما يتعلق بعدم ذكر صناعة التفاهة التي تسعى هذه الألعاب إلى غرسها في الأطفال، وبطبيعة الحال ما يسمى “بالمواطن الصالح العالمي” الذي ترسخه حتما هذه التطبيقات.
ما دمنا ذكرنا صناعة التفاهة، فلا يمكننا تجاهل كتاب “نظام التفاهة” (Banality System) لمؤلفه الكندي “آلان دونو” (Alain Deneault) أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك، الذي يشير إلى نقاط عديدة حول ما ذهبنا إليه فهو “ينقد الحياة الغربية التي تعمل على ترسيخ الفردانية، وتضخم النـزعة الـمادية، وتفجر في الإنسان الاستهلاكية، بهدف خدمة الشركات العالمية، التي تسعى بشكل حثيث إلى بناء إنسان لا يفكر إلا بالاستهلاك، وبإشباع رغباته، وشهواته، وبذلك يتم تقصير الطريق أمام الشركات العالمية وأثرياء العالم الغربي من أجل تضخيم ثرواتهم.
وإذا ذهبنا إلى تعريف هذا النظام – نظام التفاهة- على لسان كاتبه، فإنه يقول إنه “النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضا عن العمل الجاد والملتزم”.
وذلك كله، وحسب رأيي، وباعتقاد كثيرين ممن يفكرون بطريقة مختلفة، يهدف إلى الوصول إلى “المواطن العالمي الصالح” الذي يتمتع بسمات معينة، مثل: الأنانية الـمفرطة، الأنا المتضخمة، الجري وراء الشهوات، عدم التفكير بالقضايا العامة، الأفق الضيق، شهوة الاستهلاك، الركض وراء الموضات، التعاطف المسموم مع الحيوانات ونسيان الإنسان المضطهد والمظلوم (طبعا نحن لسنا ضد التعاطف مع الحيوانات لكن ضد نسيان الناس، وهناك صفات كثيرة لا مجال لذكرها الآن.
هذه الصفات تميت روح المقاومة للاستعمار في قلوب الناس، وتجعل من سرقة الثروات الطبيعية في العالم الثالث مهمة سهلة، وتمهد للاستلاب الحضاري، والفكري، والثقافي، وتصنع مواطنا لا يفكر إلا بنفسه.
سقت هذه المقدمات كلها حتى نعرف خطورة الألعاب الرقمية، وهي جزء من وسائل بناء المواطن العالمي الصالح، أو الشخص التافه، وكي لا يتهمنا أحد بالمبالغة في الـموضوع، فلا بد للإشارة إلى مضامين بعض هذه الألعاب ولا داعي لذكرها بالاسم، فجميعنا يعرفها، ومن لم يتعرف عليها، يمكن أن يسأل أطفاله عنها، وسيجد الإجابة.
أول مضمون في هذه الألعاب هو جعل السرقة عملية بطولية مهمة للإنسان، حيث يتحرك اللاعب في بعض الألعاب باتجاه سيارات – ليست له – ويسيطر عليها بالسلاح، ويسرقها، وكلما تمكن من اغتصاب سيارات أكثر يصل إلى المراحل النهائية في اللعبة، وفي ألعاب أخرى يجب أن يدهس اللاعب أي شخص يقف أمامه، ولن نأتي بجديد عندما نقول إن مثل هذه السلوكيات في الألعاب تتسرب إلى وجدان الطفل وتجعله يؤمن أن الحياة معركة شرسة، لا ينجح فيها إلا من يدوس غيره، وعلى الـمستوى الآخر فإنها تضخم الأنا، وتجعل الطفل لا يفكر إلا بذاته، ومصالحه، ورغباته، والأخطر من ذلك كله، أن الطفل يتعلم في هذه الألعاب التمرد على السلطات المحلية، فهو يطلق النار على رجال الشرطة في اللعبة، ويسيطر على سيارتهم، ويدوس عليهم، متجاهلا الاعتبارات الأخلاقية في التعامل مع ممثلي السلطات، ولكم أن تتصوروا كيف سيرى الطفل الشرطي مثلا في الحياة الحقيقة، بعد أن يستيقظ لأوقات قليلة من إدمانه على هذه الألعاب.
لننتقل إلى المضمون الثاني لهذه الألعاب وهو الإباحية حيث يتم عرض أجسام لاعبات كرتونية بطريقة غير مناسبة لثقافتنا، وفيها مبالغة كبيرة، والهدف هو تطبيع عقلية الطفل لتقبل هذا الأمر، إضافة إلى ذلك فإن هذه الألعاب تتيح للأطفال اللعب (Online)، مع لاعبين من مختلف أنحاء العالم، ويكفي أن تسأل أي عائلة لديها أطفال يلعبون هذه الألعاب ليحدثوك عن القاموس الفاحش الذي يتعلمه الطفل من زملائه في اللعب، بحيث يصبح مثقفا عالميا في الفحش، والبذاءة، وغيرها، ولن أتطرق في هذا السياق إلى تقصير الأهل في حماية أبنائهم من ذلك، فبعضهم لا يعلم، وآخرون لا يستطيعون، وجماعة ثالثة من جماعة – كيفما اتفق- لا ترغب بإزعاج أطفالها المدللين، وهذا بعض ما توصلت إليه من خلال بحث معمق أجريته حول مخاطر الإنترنت على الأطفال سيجد طريقه للنشر قريبا – بإذن الله-.
تشجيع الاستهلال هو المضمون الثالث الذي تركز عليه الألعاب، بحيث إن الطفل يضطر إلى شراء رقصات، أو ملابس معينة لشخصيته الممثلة داخل اللعبة، وقد يصل الطفل إلى مرحلة العبودية والإذعان فيضغط على أهله للإنفاق على متعلقات هذه الألعاب، وإلا فإنه لن يستطيع مجاراته أقرانه وأصدقائه، والإستراتيجية الكبرى التي تعتمد عليها هذه الألعاب هي جر الطفل من خلال طعم اللعب الـمجاني، ثم يكتشف فجأة أنه لن يحصل على مزايا إضافية إلا عندما يلعب، ومن الملاحظ من خلال تتبع آراء بعض الأهالي الذين وافقوا مثلا في بحثي على البوح بقصصهم مع هذه الألعاب، أن بعض الأطفال اضطروا إلى السرقة من أجل تمويل هذه الإضافات المدفوعة، وفي حالة عدم قدرتهم على الحصول على التمويل اللازم كانوا يتصرفون مثلما يفعل المدمنون، ويمارسون العنف، والعصبية، وربما الانسحابية من الحياة، وإهمال الدراسة، وغيرها.
لن يتسع المجال لذكر كافة مضامين هذه الألعاب، ولكن ما نريد أن نقوله هنا هو أن أي أداة تستخدم لصناعة التفاهة، أو لبناء إنسان عالمي صالح – وفقا للمفهوم السلبي وليس الإيجابي للمعنى – لا يصب في مصلحتنا – باعتبارنا من دول العالم الثالث، بل ولا العالم الأول، لأنه في النهاية يسهل الاحتكار العالمي للثروة، ويشجع على زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولا يسهم في بناء إنسان واع ذي تفكير ناقد، قادر على التفريق بين ما هو صحيح، وغير صحيح، وعلى رأس الأدوات التي ترسخ ما لا نريده هي الألعاب الرقمية.
لا نريد أن نصل إلى مرحلة يموت فيها جارنا جوعا، ونحن نمرض بسبب التخمة، ولا أن يرى المواطن في بلدنا شخصا يموت في الشارع فلا يبالي به، ففائض الشهامة التي يتمتع بها شعبنا، ومحبة الآخرين، والحرص على المصلحة العامة، من الأخلاقيات التي تستحق الحماية، والترسيخ، والتعميق، فمواطننا هو مواطن صالح، يشعر مع الآخرين، ولا يؤجر عقله، ولا يسير بعقلية القطيع، ولا يعد جزءا من نظام التفاهة العالمي.