قبل 107 أعوام كاملة، في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، أصدرت الحكومة البريطانية «وعد بلفور». ولم يكن وعداً؛ كان صك تمليك منحه في رسالة وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد ليونيل روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا. وتضمن الوعد دعم بريطانيا لمشروع إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ومساعدتهم في انتزاعها من أصحابها الفلسطينيين. وكانت هذه الرسالة بدايةً لفصول طويلة لم تنته في تاريخ الشعب الفلسطيني والمنطقة، وأسست لمشروع استعماري ينشئ كيانًا لغرباء على أنقاض وطن الفلسطينيين التاريخي، وافتتحت دفقًا غير منقطع من المذابح وسفك الدماء حتى هذا اليوم في كل الشرق الأوسط.
لم يكن وعد بلفور مجرد رسالة دعم، بل إعلانًا سياسيًا أسس لشرعنة مشروع استيطاني استعماري في فلسطين، والتمهيد لتنفيذه باستعمار البلد وقمع الثورات الفلسطينية بوحشية، يقابله دعم غير متوانٍ لهجرة واسعة النطاق لليهود الأوروبيين إلى فلسطين. وأدت الاختلالات الديموغرافية التي أحدثتها بريطانيا وسياساتها التي سلحت اليهود وأنهكت الفلسطينيين وجردتهم من كل أداة للمقاومة إلى النكبة الفلسطينية في العام 1948. وفي ذلك العام الكارثي، شردت العصابات الإرهابية الصهيونية نحو 750 ألف فلسطيني، ودمرت مئات القرى والبلدات الفلسطينية، وارتكبت العديد من المجازر، وفرضت واقعًا جديدًا قوامه التهجير القسري والتطهير العرقي لأصحاب الأرض.
كان «وعد بلفور» هو الجذر الأساسي للمأساة الفلسطينية المستمرة. وما يزال ملايين الفلسطينيين يولدون ويموتون في المنافي، بينما تتواصل جهود الكيان الصهيوني لتدمير الوجود الفلسطيني في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وكل فلسطين التاريخية. ولم تُقتصر تداعيات «الوعد» بالخراب على مصادرة حقوق الأغلبية الساحقة من السكان العرب في فلسطين وتهميشهم وتوفير دعم سياسي وقانوني وعسكري لمشروع استيطاني أجنبي فحسب.
كان وعد بلفور تأسيسًا لسياسة منهجية سعت إلى تقسيم المنطقة العربية والسيطرة عليها في إطار التنافس الاستعماري بين القوى العظمى، حيث استُخدمت فلسطين كأداة جيوسياسية ووسيلة لتعزيز النفوذ الاستعماري البريطاني. وتلقفت الولايات المتحدة الميراث لبسط هيمنتها على الشرق الأوسط وإدامتها بدعم المستوطنة الصهيونية العدوانية الوكيلة التي أسستها بريطانيا.
والآن، بعد 107 سنوات انتهت فيها معظم الاستعمارات المباشرة، ما تزال بريطانيا ماضية في انتهاج سياسات تضاعف الآثار الكارثية لجريمتها الأساسية، وتغض الطرف عن– بل وتدعم بكل السبل- الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها وليدتها غير الشرعية. وفي حين سجلت بريطانيا نفسها في نادي «الديمقراطيات» وأسدلت –ظاهريًا- ستارًا على ماضيها الاستعماري المخزي، فإنها تجنبت تصحيح أكبر جرائمها وأكثرها ديمومة في حق الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية. بل إنها ما تزال تقدم كل أشكال الدعم لابنة الخطيئة التي تنتهك القوانين الإنسانية والدولية بأكثر الطرق فظاعة وعلى رؤوس الأشهاد. وليس هذا التواطؤ الضمني والتغاضي الصريح سوى استمرارية لموقفها التاريخي الاستعماري منذ الوعد، وإشارة إلى أنها لم تتجاوز نقيصة الاستعلاء الاستعماري والازدراء المطلق للمبادئ الإنسانية.
في أحسن الأحوال، تكتفي بريطانيا مدعية التحضر والإنسانية بالتصريحات الدبلوماسية المنافقة التي تنقضها الأفعال. وهي من أكثر أعضاء مجلس الأمن استخدامًا لحق النقض لإجهاض القرارات التي تدين جرائم الكيان الذي أنشأته، ولم تكشف عن أي بادرة إلى فك ارتباطها مع نظام استعماري استيطاني يواصل ممارسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية. ولو كانت على الأرض عدالة، لأدينت بريطانيا أولًا وقبل كل الآخرين على جريمتها ذات الأبعاد التاريخية، والفريدة بكونها أشبه بأعمال القاتل المتسلسل.
ينبغي أن يسعى الفلسطينيون وأنصارهم إلى تسجيل دعاوى قانونية ضد بريطانيا في كل مكان ممكن، ومطالبتها باعتراف رسمي واضح بمسؤوليتها التاريخية عن النكبة المتواصلة التي يعاني منها الفلسطينيون والعرب والمنطقة نتيجة تصرفها الشائن وغير المحق بأوطان ومصائر الآخرين. ويجب أن تقدم اعتذارًا صريحًا للشعب الفلسطيني، يتضمن الاعتراف بالمعاناة التي سببتها لهم سياساتها الانتدابية التي أسلمتهم لاستعمار استيطاني قاتل بطبيعته. وكجزء من تحمل مسؤوليتها التاريخية، يجب عليها على الأقل دعم حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم عن الخسائر التي تكبدوها عقودًا بسببها. ويجب أن تكون من أوائل الذين يصرون على أن يكون هذا الحق جزءًا من أي حل قريب من العدالة للقضية الفلسطينية.
ما يزال وعد بلفور، وسيظل إلى الأبد، وصمة عار في تاريخ بريطانيا وجرحًا مفتوحًا نازفًا في جسد الشعب الفلسطيني المنكوب. ويعكس تجاهل بريطانيا لمسؤوليتها التاريخية عن النكبة الفلسطينية ودعم إدامتها سقوطًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يقترب منه سوى سقوط ألمانيا والولايات المتحدة. وباستلهام شجاعة جنوب أفريقيا في مقاضاتها للكيان الصهيوني المجرم، ستكون مقاضاة بريطانيا على «وعد بلفور» واستدعاؤها أمام المحاكم الدولية –حتى مع أن هذه المحاكم ساقطة هي الأخرى كما هي- جهدًا رمزيًا مهمًا يجلب إلى دائرة الانتباه العالمي الجديد الأصل الأول للكارثة الفلسطينية، وكيف تطورت فصولها، وصولًا إلى ما هي عليه اليوم. سيكون هذا الجهد مهمًا في إبراز السياق وقطع الطريق على المحاولات من نوع تقديم هجوم 7 تشرين الأول وكأنه بداية القصة. وسيكون فضح دور بريطانيا في التأسيس للواقع الراهن الدموي في فلسطين والشرق الأوسط أقل واجب لكشف حقيقة بريطانيا بما هي في الماضي والحاضر: نظام جائر ختم جرائمه الاستعمارية بجريمة دائمة متسلسلة، لا يبذل أي جهد لإيقافها أو التكفير عنها.